- مقدمة:
تتمتع سورية بميزات وخصائص جيوبولوتيكية جاذبة جعلتها أخطر بقاع العالم, ومحور رئيسي في الصراع الدولي والإقليمي القائم, تنحدر إليها سهوب آسيا صعودا من مجرى نهر الفرات واصلة أقصى آسيا شرقا بأوروبا غربا, ومن مرتفعات الأناضول شمالا امتدادا على شطآن المتوسط لتنساح في صحراء سيناء جنوبا, مشكلة نقطة التحكم الاستراتيجية الأولى دوليا, كونها ممرا لتدفق التجارة البينية العالمية, وتدفق النفط عبر خطوط ( التابلاين وآرامكو) وخط الغاز العابر باتجاه أوروبا, وكذلك مجالا حيويا لتدفق القوى الدولية والإقليمية عبر المتوسط والبحر الأسود والخليج العربي, ثم أكسبها هذا الموقع تنوعا حضاريا تفاعل عبر انتشار واصطدام الحضارات المتعاقبة المتصارعة المنتجة لكل الرسالات السماوية, والمعتقدات الدينية بما تحويه من طقوس وأساطير أغنت الإنسانية معرفة وفكرا.
هذه الميزات باتت لعنة على السوريين لتشابك العالم في هذه الرقعة الجغرافية, أسيا بما تمثله من البحث عن إطلالة على أوربا عبر شطآن المتوسط, والثانية دول الخليج العربي بما تحويه من نفط مما جعلها موضع تنافس وصراعات دولية ممتدة على طول الخط التاريخي المتعرج بين مختلف القوى الدولية والإقليمية, (الروم، والفرس، واليونان، وفراعنة مصر) قديما, كما شهدت انشطار الإمبراطورية الرومانية, وباتت مركزا أساسيا لشطرها الشرقي, وفي العصر الإسلامي تحولت إلى مركز لإمبراطورية بني آمية التي امتدت من حواف جبال هيمالايا شرقا, حتى جبال البيرنييه الفاصلة بين إسبانيا وفرنسا غربا, لتصبح دمشق مركز القوة الدولية حيث انطلقت من شطآنها ووهادها جيوش التحرير والفتح بكل الاتجاهات, ومع أفول شمس بني أمية دخلت سورية ومحيطها صراعات داخلية دامية, أنتجت انقلابات متواصلة, وجدلا واسعا حولت الأمة الواحدة إلى طوائف وملل ونحل وممالك وإمارات تستيقظ بين تارة وأخرى على قرع طبول الحرب, وصليل السيوف, لتنهش بعضها بعضا, فتموت دول وتحيا غيرها, فاشتبك البدو بالحضر, والمدن بأخواتها, وبلغ الخلاف منتهاه في اقتتال البيت الواحد.
هذا الموقع, اللعنة, وما يتيحه من وصل وفصل بين آسيا وأوربا, وما يشغله محيطها من مجال حيوي, دفع الصليبيين ثم المغول لاجتياحه على مدار قرنين ونيف, وتواصل الغزو مع ورثتهم الأوربيين في مطلع القرن العشرين ليحتلوا سورية ومحيطها العربي, ويتقاسموا تركة الدولة العثمانية التي اتخذت من سورية مركزا رئيسيا لها بعد عاصمتها (الآستانة) استانبول الحالية.
ثم كانت اتفاقية سايكس بيكو تقطيعا لأوصال سورية إلى أربع دويلات, أضيف إليها جسد غريب هو (إسرائيل) بمقتضى وعد بلفور, تحسبا لما لهذه المنطقة الاستراتيجية من أهمية في حال نهضتها من عثراتها المتراكمة.
لقد أحدث قيام إسرائيل دويا هائلا لا يزال صداه يهز سورية بعنف, باعتبار موقعها الجغرافي ثابت لا يتغير, لترسو سفن الجنرال غورو على شطآن المتوسط باتجاه سورية, واتخذت بريطانيا من بغداد مركزا لها وعينها على دمشق من خلال الحلف الذي أقامته, وقبل ذلك تزاحم العرب للوصول إلى الشام, ولكن مناخ السوريين المتقلب لفظ الجميع, وراح يبحث عن خياراته المحلية بعد ثورة شعبية أجبرت الفرنسيين على توقيع معاهدة الاستقلال, وهنا تحركت الاستراتيجية الغربية لضبط سورية موقعا وحرمانها من الاستقرار, باعتبارها المهدد الرئيسي لإسرائيل, ولوجود النفط في محيطها العربي, فكانت الانقلابات العسكرية الممتدة من عهد الاستقلال إلى انقلاب حافظ الأسد عام 1970م, الذي بات وكيلا للغرب في ضبط الموقع وزلازله بطريقة "رجل الدولة" المنفذ للاستراتيجية الغربية بحذافيرها مع منحه فرصة للمناورة في خطابه الإعلامي باعتبار دمشق منبر العروبة, ومحط أنظار العرب, ولشراسة شعبها المعجون بالجغرافية وبالتاريخ والفكر الحضاري, وفوق ذلك إشرافها بلا فاصل على إسرائيل, ويمكن لنا أن ننظر بدهشة وذهول لحقبة حكم الأسد, كيف استطاع السيطرة على شعب نصفه من الساسة المحترفين, وربعه من القادة والزعماء, والربع الباقي رسل وأنبياء، أو هكذا يتصورون, بحسب ما قاله الرئيس شكري القوتلي لعبد الناصر بعد توقيع اتفاقية الوحدة, وتبقى الدهشة قائمة, والسؤال مستمر, كيف حكم الأسد المتحدر من أقلية هو فيها أقلوي, سوريا قلب العالم الاستراتيجي, ونبض العروبة الدافق, حتى صار اسمها "سوريا الأسد"؟
بعد أربعين عاما من حكمه بنتائجها ومآلاتها, تتبدد الدهشة, وتسهل الإجابة بعيدا عن الاتهامات, لقد عرف حافظ الأسد كيف يتاجر بالجولان وفلسطين ويعادي العروبة, خصوصا بعد قيام الحلف الجديد بين طهران ودمشق مباشرة بعد "الثورة الخمينية" في 1979 وإعلان الحرب ضد العراق, إذ خاض الأسد مع الخميني الحرب من منطلق مذهبي في العمق. حيث الرابط المذهبي أساس هذا الحلف الذي ما زال يعمل على تدمير سورية, وفي لبنان قضى على كلّ أمل لدى الفلسطينيين في تحقيق بعض مطامحهم على صعيد قيام دولة مستقلة لهم. فحـارب القـضية الفـلسطينية عـبر ممثلها الحقيقي ياسر عرفـات، "أسير عقـدة الجغرافيا"، في حروب لبنان رافعا في الوقت ذاته شعار "القرار الفلسطيني المستقلّ" فقتل من الفلسطينيين، هو وأدواته اللبنانية والفلسطينية أكثر بكثير مما قتلت إسرائيل.
وبعد أن انتهى حافظ الأسد سريعاً من حروبه التحريرية وحركاته التصحيحية, التفت إلى معاركه الداخلية ضد الشعب السوري، بعد تصفية كل معارضيه بالقتل والسجن والمنافي, وكانت ذروة مجازره في حماه 1982 التي دمرت ثلثي المدينة وقتلت وشردت 100 ألف من أهلها, فيما بقيت جبهته مع إسرائيل الأكثر هدوءاً بشهادة الإسرائيليين, وهذا ما جعل واشنطن وإسرائيل ودول الغرب توافق على استمرار نظام الأسد المورث لابنه بشار بعد مباركة مادلين أولبرايت وزيرة خارجية الولايات المتحدة التي عزت بالأسد الكبير وباركت للصغير تربعه على عرش السلطة, ومع انفجار الاحتجاجات الشعبية عام 2011م, واندحار الأسد راح يلعب بنقطة التوازن الإستراتيجية العالمية, ففتح أبواب سورية على مصراعيها للغزاة والمحتلين ومراكز النفوذ العالمي لتحل لعنة الجغرافية على السوريين في موقع لا يمكن الم
No comments:
Post a Comment